إشراقة

 

 

الكتابات عندما تتصف بالتألم والرقّة

 

 

 

 

 

بعضُ الكتابات تمتاز عن غيرها بأنّها تبعث القارئَ على التَّأَلُّم، وتُكَهْرِبُه بعاطفيّة إيجابيّة لابدّ منها للإنسان ولاسيّما الإنسان المسلم؛ لكي يكون إنساناً سويًّا يحوي معانيَ الإنسانيّة، ولكي يكون مسلماً صادقاً يعيش همومَ غيره، قبل أن يعيش همومَه هو. يَرِقِّ لحالة الأمة وحالة الإنسانيّة ولكل بائس ملهوف، ولكل جريح أو منكوب، ولكل مظلوم أو مسحوق، ولكل من لاسندَ له في الكون سوى من يَرِقّ لحاله، فتنبعث فيه الإنسانيةُ، فيندفع لإغاثته بكل ما هو مُيَسَّر لَه من غالٍ أو رخيص، أو ناطق أو صامت.

     و صفة إثارة التألّم هذه التي تمتاز بها بعضُ هذه الكتابات، لايكون مصدرها حسن الأسلوب، أو خفّة التأليف، أو متانة التركيب، أو فصاحة اللفظ والجملة، أو بلاغة القول، أو روعة المعنى، أو ندرة الفكرة، أو براعة الكاتب في استخدام الـمُفْرَدات والـمُرَكَّبَات، أو تفنّنه في تكوين الجملِ، وقدرته العجيبة على ابتكار المعاني وطرح الأفكار، وصياغة الفِقر مصبوغةً بالجمال الساحر الأخّاذ.

     وإنّما يكون مصدرها وراءَ ذلك كله. إنّ هذا التألّم لدى الكاتب والداعية، إنّما ينبع من بيئته الدينية التي ينشأ فيها، ومن دراسته المتعمقة المعجونة بالوعي الدعوي، والغيرة الإيمانية، والنخوة الدينية، والإباء الإسلامي، الذي يتكوّن لديه من التربية الدينية الشاملة، التي يأخذه بها والداه، وأولياء أمره، وأساتذته الصالحون، الذين يَحْظَىٰ بهم بفضل الله وحده الذي إنما يشمل به عبادَه الذين يكون قد أراد بهم خيرًا وسعادةً في الدنيا والآخرة.. دراستِه للتأريخ الإسلامي، والسيرة النبوية، والغزوات والسرايا، وقصص بلاء أبطال الإسلام الشجعان، في المعارك الحاسمة الفاصلة بين الإسلام والكفر. وينبع كذلك من إدراك الأوضاع المختلفة التي مرّت بها المسيرةُ الإسلاميةُ في شتى ديارها ومختلف أزمانها.

إنّ كتابةً ما تخلو من روح التألّم هذه، لاتهزّ أوتارَ القلب، ولا تُحَرِّك الإيمان، ولا تُشْعِل الوجدان، ولا تُكَهْرِب الأذهان، ولاتُحْيِي الضمير، ولا تُنْعِش الأمل، ولا تدفع للعمل، ولا تُحَطِّم أصنام الهوى، ولا تدعو قارئَها إلى تجديد العهد مع الله، والتمسّك بسنّة الرسول مهما كانتِ الأحوال، ولا تُشَجِّع على كسر أغلال العبودية والذلّ التي تحاول الجاهليةُ دائماً تكبيلَ أبناء الإسلام الصادقين بها بشتى أساليب الحيل والمكر والمراوغة.

     قد تكون الكتابةُ جميلةً من شتى النّواحي الظاهرة التي ترتسم عليها أبصارُ عامّة القراء الذين لايكون لديهم رصيدٌ من البصيرة وقدرة النزول في الأغوار؛ ولكنها تخلو كليًّا من بصيص التألم و روح الرِّقَّة وعاطفة الترحّم على الغير وصفة التحطّم الداخليّ، والانكسار النفسيّ، وإنكار الذات، والتواضع لكل أحد.. قد تكون الكتابةُ مستجمعةً لتلك الخصائص الظاهرة كلِّها؛ ولكنّها رغمَ ذلك لاتُزَوِّد القارئ بالتألّم والتفجّع للغير، والرثاء لحالة الحزين المهموم الذي يبحث عن إنسان في المجتمع الإنساني الـمُتَّخم بالزِّحَام البشري الذي عاد يتبلع كلَّ شبر من أشبار الأرض.

     الكتابةُ الـمُجَرَّدَةُ من روح التألّم هذه وصفة الرقّة لكل منكوب في المجتمع البشري، لا تُؤَدِّي دورًا في خدمة الإنسانية، وتضميد الجراح، ومواساة المفجوع، والوقوف بجانب من يشعر أنه لاسندَ له على ظهر البسيطة وتحت أديم السماء، ويرى أنه ليس هناك من يُشَاطِره الأحزانَ والآلامَ التي بَرَّحَتْ به وألحّت عليه وحَوَّلت له هذه الدنيا جحيماً لا تطاق.

     كثـيـرًا ما مُنِيتُ بكتابـــات وجــــدتُـها تَتَجَمَّــــل صيـــــــاغــــةً، وتــــــروع تحبــيــرًا، وتلمـــع تعبيرًا وتأليفاً، وتزدان فصاحةَ لفظ، وبلاغةَ معنى، رغمَ ذلك لم أقدر أن أمكث في ثناياها ثوانيَ، وأسيغها قراءةً ولو قدر سطور؛ لأنها بَدَتْ لي جُثَّةً هامدة، وجَسَدًا بلا روح؛ لأنّها كانت تفقد كلَّ معنى من معاني التألّم والتفجّع التي تكسب كتابةً ما اللذةَ الساحرةَ التي تَشُدُّ القارئَ، وتُلِذّ الـمُتَذَوِّقَ للنصوص البارعة والعبارات اللطيفة التي تفيض حياةً وتنتعش روحاً، وتجذب ناشدَ الجمال جذبَ المغناطيس للقِطَع الحديديّة.

     الرقّة الـمُرَقِّقة والتألم الـمُكَهْرِب لقلب كلِّ قارئ قيمةٌ كبرى لكتابة من الكتابات؛ لأنّها تبنى فكره، وتصنع رؤيته، وتصوغ خاطره بنحو لايكون له عهد به من قبل قراءتها، وتُخَرّجه على المعاني التي إذا تَجَرَّدَ منها فردٌ من البشر يعود لا فرقَ بينه وبين بهيمة عجماء إلاّ فرق صـــورة اللحــم والــدم؛ فالجاجةُ ماسَّةٌ بالكاتب – ولاسيّما إذا كان يَتَبَنَّىٰ دعوةً ورسالة – أن يتمرن على إتقان »فن« التألّم والرقــة، كما يتمرّن على تعلّم اللغة وتأليف الكلمات، وصياغة الجمل، وتحبير العبارة، والترسّل والإنشاء، ويتقن فنَّ الكتابة بالممارسة ومواصلة الرحلة على دربها. إنّ فن التألّم والرقّة لايتمكن منه إلّا المتمرنون عليه، والممارسون له، والمواصلون الرحلــــةَ على طريقـه، الملازمون لصحبة الـمُتَأَلِّمِين ذوي الرقّة من الكُتّات الملتزمين، المحتضنين للدعوة والرسالة، اللتين عنهما يصدرون في كتاباتهم دائماً؛ فلا يكتبون إلاّ ليُؤَدُّوا رسالة، ويُبَلِّغوا دعوة، ويُرِيحُوا ضمائرَهم، ويَشْفُوا نفوسَهم، ولا يكتبون مثل كثير من الكُتَّاب، لمجرد اللهو والتسلية أو إشباع الهوى الكتابيّ أو للقيام بالوظيفة وامتهان المهنة والتكسّب، الذين يسودون القرطاسَ، وينثرون الكلمات جوفاءَ، ويطلقون الجمل هامدةً لا تهدف إلى إقناعِ ضمير، وإشباعِ عقل، وتغذيةِ قلب، وهزِّ وجدان، وشحذِ إيمان، وتجديدِ عهد، وصقلِ يقين، وعقدِ عزم، وتعزيزِ اتّفاق، وإِخلاصِ نيّة.

     الكاتبُ ذوالدعوةِ والرسالةِ اللتين يؤمن بهما وينطلق منهما، لايَرْصُفُ مجردَ كلمات، ولا يَرْكُم مجردَ جمل، ولا يُنَمِّق فقط العبارةَ، ولايهتمّ بظاهر النصّ وتجميله بحيث يروق الأبصارَ ويشدّ الأنظارَ، وإنّما يُعْنَىٰ قبل كلّ شيء بترقيق ما يكتب وبشحنه بموادّ مثيرة للتألّم والتفجّع والعطف على كل فرد من البشر مهما كان عرقه ولونه وجنسه؛ فيتخرج القارئُ في مدرسةِ كتاباته على الترحّم على كل أحد والرقة له، فيأخذ اللوعةَ والوجدَ والرقةَ والعطفَ زادًا له في حياته، يتمسّك به ويتعامل مع أفراد المجتمع الإنساني الذي يعيشه، فيَسْعَد ويُسْعِد المجتمع، ويطيب نفساً بنجاحه هو وبانتفاع المجتمع بذاته، فترتفع قامته لدى الخلق وقيمته لدى الخالق، فيحوز سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُفْلِح في العاجلة والآجلة.

     وعلى العكس من ذلك الكاتب الـمُهْمِل للرسالة والدعوة، قد يفوق كثيرًا من الكُتّاب في تزيين ما يكتب، ويصوغ العبارة لامعةً آخذةً بالأبصار؛ ولكنّها لا تأخذ بمجامع القلوب وبحجز الوجدان، و لايشعر قارئها بطمأنينة القلب، وقناعة الضمير، وقرّة العينيين، وشِبَع الوجدان؛ لأنها تكون خالية من رصيد التألم ومادة الرقة.

        أبو أسامة نور

nooralamamini@gmail.com

(تحريرًا في الساعة 9:30 من الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت 7-8/ صفر 1434هـ = 21-22/ديسمبر 2012م)

 

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37